يونيو 20, 2025

إشكالية السردية التاريخية الموجهة نحو القادة

إعداد : محاور

نشرت “مجلة الدراسات الدولية” (Studi Internazionali)  الصادرة عن “مركز الدراسات الدولية” (Centro Studi Internazionali)، وهو مركز أبحاث مستقل مقره نابولي، إيطاليا، مقالا بعنوان “إشكالية السردية التاريخية الموجهة نحو القادة” للباحث ياروسلاف باولو سكانو، والذي يسلط الضوء على الطريقة التي يركز بها التاريخ الحديث على أفعال القادة كعوامل رئيسية في تشكيل الأحداث، مما يؤدي إلى تجاهل السياقات الاجتماعية والثقافية الأوسع، حيث يوضح سكانو أن هذه النزعة، التي ترجع أصولها إلى القرن التاسع عشر، تساهم في تقليل فهمنا للتاريخ كنتاج لتحركات  ديناميكية داخل المجتمعات .

السرديات التاريخية السائدة تُظهر القادة كمهندسين فرديين للتاريخ، حيث تُدرس الحقب بناءً على أسماء مثل يوليوس قيصر ونابليون وهتلر، وتُعزى هذه النظرة إلى نظرية “الرجل العظيم” التي طورها توماس كارلايل، والتي تفترض أن القادة يولدون بقدرات فطرية تمكنهم من قيادة شعوبهم، متجاهلة التأثير الكبير للظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تُسهم في تشكيل القادة أنفسهم، ويشير الباحث إلى أن هذا النهج لا يزال مهيمنا اليوم، ليس فقط في الدراسات الأكاديمية بل أيضا في النتاجات الثقافية كالأفلام والمسلسلات، التي تُبرز القادة كأبطال خارقين دون اعتبار للعوامل التي جعلت قيادتهم ممكنة.

في الوقت الحاضر، تُستخدم هذه السردية المتمحورة حول القيادة لتفسير العديد من الأحداث العالمية، مثل الحرب الروسية-الأوكرانية. تُقدم هذه الحرب في وسائل الإعلام الغربية على أنها “حرب بوتين”، حيث يُوصف الرئيس الروسي كديكتاتور فرض سياساته على شعبه دون رغبتهم. لكن سكانو يوضح أن هذا التفسير يتجاهل الديناميكيات المجتمعية في روسيا، حيث تُظهر الدراسات أن جزءا كبيرا من الشعب الروسي يدعم سياسات بوتين ويرى فيها وسيلة لحماية الهوية الوطنية الروسية ومواجهة النفوذ الغربي.

تُظهر استطلاعات الرأي أن العديد من الروس يعتبرون الحرب في أوكرانيا ضرورية للدفاع عن مصالح روسيا الاستراتيجية، خصوصاً في مواجهة توسع الناتو. حتى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية دعمت هذه الحرب ووصفتها بأنها “حرب مقدسة”، مما يبرز التأييد المؤسسي الذي يعكس رؤية شريحة كبيرة من المجتمع الروسي.

من جانب آخر، يُبرز الباحث مثالا آخر لتوضيح ديناميكيات القيادة، وهو الثورة الفرنسية. على الرغم من أن هذه الثورة تُنسب غالباً إلى قادة مثل روبسبير، فإن سكانو يُذكرنا بأن الثورة كانت حركة جماهيرية في الأساس، قادتها قطاعات واسعة من الشعب الفرنسي التي طالبت بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وكانت الجماهير هي القوة المحركة للثورة، وليس فقط خطب القادة أو قراراتهم.

في المثال الإيراني، يقدم سكانو رؤية مغايرة للسرد التقليدي الذي يُبرز قيادة آية الله الخميني كعنصر حاسم في الثورة الإيرانية عام 1979. يشير إلى أن الثورة لم تكن مجرد نتاج لعبقرية قائدها، بل تعبيراً عن غضب شعبي واسع النطاق ضد النظام الملكي. كانت عوامل مثل التدهور الاقتصادي، عدم التوازن في التنمية، ودور الإسلام السياسي في حشد الجماهير، من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت الإيرانيين إلى الثورة. يرى سكانو أن النظام الحالي في إيران، الذي يجمع بين الثيوقراطية والجمهورية، يعكس رغبة شعبية عميقة، وليس مجرد فرض من القيادة الدينية.

يخلص المقال إلى أن السرد المتمحور حول القادة يُسهم في تشويه فهمنا للتاريخ. القادة، وفقاً لسكانو، ليسوا مَن يصنعون التاريخ بمفردهم، بل هم نتاج لبيئاتهم الاجتماعية والثقافية. إن تجاهل دور الشعوب في صياغة الأحداث يجعل السرديات التاريخية أحادية البعد وتفتقر إلى العمق.

يدعو الباحث إلى إعادة النظر في منهجيات دراسة التاريخ، حيث يرى أن التركيز على القادة وحدهم يحجب العوامل الهيكلية والاجتماعية التي تُشكّل الأحداث. بدلاً من ذلك، يجب أن نولي اهتماماً أكبر للشعوب كفاعلين رئيسيين في صياغة مسار التاريخ.

ينعكس هذا التوجه في تحليل الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث يُظهر سكانو أن التركيز على بوتين وحده يغفل عن فهم ديناميكيات الشعب الروسي ومواقفه تجاه الحرب. كما أن دراسة الثورة الفرنسية والإيرانية تقدم دروساً حول أهمية الحركات الجماهيرية في إحداث التحولات التاريخية.

تقرير مجلة “الدراسات الدولية” يُمثل دعوة لفهم أعمق للتاريخ، يتجاوز النظرة الفردية الضيقة ويركز على العوامل المجتمعية والبيئية التي تُشكّل القادة وتدفعهم إلى اتخاذ القرارات. هذه الرؤية تفتح المجال أمام قراءة أكثر توازناً للتاريخ، تُبرز التفاعل المعقد بين القادة وشعوبهم، وتُظهر أن القادة ليسوا سوى أحد العوامل التي تسهم في صياغة الأحداث، وليسوا الفاعل الوحيد.

هذا التقرير يُعد مساهمة فكرية مهمة في تغيير طريقة دراسة التاريخ وفهمه، ويطرح تساؤلات حول كيفية بناء سرديات تاريخية تعكس الحقائق الاجتماعية والسياسية بشكل أدق.

رابط الموضوع الأصلي 

About The Author